بعد نبي الله عيسى ابن مريم :
طالت الفترة ، وساد الظلام في العالم ، وغاب النور والعلم ، وخفتت الأصوات التي رفعها الأنبياء والمرسلون في عصورهم ، بالتوحيد النقي والدين الخالص ، في صيحات الجهل والضلالة التي صاح بها المحترفون والدجالون ، وانطفأت المصابيح التي أوقدها أنبياء الله ورسله وخلفاؤهم ، من العواصف التي هبت حيناً بعد حين .
الديانات القديمة :
وأصبحت الديانات العظمى – وفي آخرها المسيحية السمحة – فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرّفين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون وأنبياؤها المرسلون أنكروها وتجاهلوها .
أصبحت اليهودية مجموعة من طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة ، وهي بصرف النظر عن ذلك ، ديانة سلالية لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة ، ولا للإنسانية رحمة .
أما المسيحية فقد امتُحنت بتحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، منذ عصرها الأول ، وأصبح كل ذلك ركاماً دُفنت تحته تعاليم المسيح البسيطة ، واختفى نور التوحيد ، وإخلاص العبادة لله وراء هذه السحب .
أما المجوس فقد عكفوا على عبادة النار ، يعبدونها ويبنون لها هياكل ومعابد ، أما خارج المعابد فكانوا أحرارا ، يسيرون على هواهم وما تملي عليهم نفوسهم ، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين من لا دين لهم ولا خلاق ، في الأعمال والأخلاق .
أما البوذية – الديانة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى ، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت ، وتبني الهياكل وتنصب تماثيل «بوذا» حيث حلت ونزلت .
أما البرهمية – دين الهند الأصيل – فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلة حتى بلغت إلى الملايين ، وبالتفاوت الظالم بين الطبقات ، والامتياز بين الإنسان والإنسان .
أما العرب فقد ابتلوا في العصر الأخير بوثنية سخيفة لا يوجد لها نظير إلا في الهند البرهمية الوثنية ، وترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة ، وانغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام ، بأبشع أشكالها ، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل لكل بيت صنم خصوصي ، وكان في جوف الكعبة – البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده ـ وفي فنائها ثلاث مئة وستون صنما .
الجزيرة العربية
ساءت أخلاق العرب فأُولعوا بالخمر والقمار ، وبلغت بهم القساوة والحمية المزعومة إلى وأد البنات ، وشاعت فيهم الغارة ، وقطع الطريق على القوافل ، وسقطت منزلة المرأة ، فكانت تورث كما يورث المتاع أو الدابة ، ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر والإملاق .
وأغرموا بالحرب ، وهانت عليهم إراقة الدماء ، فتثيرها حادثة تافهة ، وتدوم الحرب أربعين سنة ، ويقتل فيها ألوف من الناس .
ظهر الفساد في البر والبحر
وبالجملة فقد كانت الإنسانية في عصر البعثة في طريق الانتحار ، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسى خالقه ، فنسى نفسه و مصيره ، وفقد رشده وقوة التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح ، وربما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمه دينه ، ويعبد ربه ، ولا يشرك به شيئا ، وصدق الله العظيم : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم : ٤١] .
لماذا بُعث النبي في جزيرة العرب ؟
وقد اختار الله العرب ، ليتلقوا دعوة الإسلام ، ثم يبلغوها إلى أبعد أنحاء العالم ؛ لأن ألواح قلوبهم كانت صافية ، لم تكتب عليها كتابات دقيقة عميقة ، يصعب محوها وإزالتها ، شأن الروم والفرس وأهل الهند ، الذين كانوا يتيهون بعلومهم وآدابهم الراقية ، ومدنياتهم الزاهية ، أما العرب فلم تكن ألواح قلوبهم إلا كتابات بسيطة خطتها يد الجهل والبداوة ، ومن السهل الميسور محوها وغسلها ، ورسم نقوش جديدة مكانها .
وكانوا على الفطرة ، إذا التوى عليهم فهم الحق حاربوه ، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم أحبوه واحتضنوه ، واستماتوا في سبيله ، وكانوا أصحاب صدق وأمانة ، وجلادة وتقشف في الحياة ، وشجاعة وفروسية .
وفي جزيرة العرب وفي مكة كانت الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ليعبد فيها الله وحده ، ولتكون مصدر الدعوة للتوحيد إلى آخر الأبد .
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران : ٩٦] .