ها هو ذا قد أسفر النهار ، والناس راجعون من المسجد النبوي في سكينة ووقار ، ولكن في خفة ونشاط ، وهنا دكان يفتح في السوق ، وهنالك سكة تمشي في الحقل ، وهذا بستان من نخيل يسقى ، وذلك أجير يشتغل في حائط على أجرة يأخذها في المساء ، قد انفعوا إلى أشغالهم بما سمعوا من فضيلة كسب الحلال ، وطلب مرضاة الله بالمال ، ترونهم خفاف الأيدي في العمل ، ذلل اللسان بذكر الله ، عامري القلوب بالحسبة وطلب الأجر ، يحتسبون في أشغالهم ما لا يحتسب المصلي اليوم في صلاته ، مقبلين بقلوبهم إلى الله وبقالبهم إلى شغلهم ، وها هو ذا قد أذن المؤذن ، فإذا بهم ينفذون أيديهم مما كانوا فيه ، كأن لم يكن لهم به عهد ، وخف إلى المسجد ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلْأَبْصَـٰرُ﴾ [24:37] النور.
وها هو ذا قد قضوا صلاتهم ، وانتشروا في الأرض يبتغون من فضل الله ، ويذكرون الله ، وقد مالت الشمس إلى الغروب ، فرجعوا إلى بيوتهم ، وقابلوا أهلهم ، وجلسوا إليهم يتحدثون معهم ، يلاطفونهم ، ويؤنسونهم طمعا في أجر من الله ورضوان ، وناموا بعد صلاة العشاء ، وإذا بهم قائمون أمام ربهم في الأسحار ، لهم دوي كدوي النحل ، وفي صدورهم أزيز كأزيز المرجل ، وينصرفون بعد صلاة الصبح إلى أشغالهم في نشاط الجندي وقوته ، كأن لم يتعبوا في النهار ، ولم يسهروا في الليل.
انظروا إلى مجالس الذكر والعلم في المسجد ، وقد ضمت صنوفا وأنواعا من الناس ، فهذا هو الفلاح الذي رأيته في النهار في حقله ، وهذا هو الأجير الذي رأيته ينزع الدلاء ، ويسقى النخيل في بستان يهودي ، وهذا هو التاجر الذي رأيته في سوق المدينة يبيع ، وهذا هو الصناع الذي وجدته مشتغلا بصناعته ، وليسوا الآن إلا طلبة علم ، وقد هجروا راحتهم – وهم في حاجة إليها بعد شغل النهار – وتركوا أهلهم وهم في حنين إليهم ؛ لأنهم سمعوا أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما صنع ، ولأنهم سمعوا «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده».